مشاهدة النسخة كاملة : روائع البيان في القرآن


اسير الاحزان
30-01-2020, 06:53 PM
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
ثم قسَّم الله بعد ذلك الناسَ حيال الذكري والموعظة وقَبولها مِن عدمه إلى فريقين؛ فالأول قال سبحانه عنهم: ﴿ سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى ﴾ [الأعلى: 10]، "فأبان الله في هذه الآية من يُرجى منهم التذكُّرُ النافع مِن الناس الذين إذا تذكَّروا دفعهم تذكُّرُهم للاستجابة لدعوة الحق.


إنهم الذين لديهم استعداد لأن يخشَوا الله إذا حصل عندهم العلم به وبصفاته، ولهذا الاستِعداد أمارات في الناس تُلاحَظ مِن تصرُّفاتهم، ومِن تأثير بعض المُرهبات الغيبية في نفوسهم، وهي لا تخفى على الداعي الألمعي".
فصاحب القلب اليقظ هو الذي يتأثر بالموعظة، والخشيةُ ذات مراتب، يتفاضل فيها المؤمنون؛ فعلى قدر يقظة القلب، يكون الانتفاع بالوعظ والتذكير، نعم؛ يتأثَّر بالموعظة القلبُ اليَقِظ؛ بل وتزداد مادة حياته؛ ﴿ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ [التوبة: 124]، والآيات كثيرة ناطقة بهذا المعنى مؤكِّدة عليه.


وهكذا كان صحابة رسول الله أرقَّ الناس قلوبًا، وأصفاهم نفوسًا، وأزكاهم عقولاً؛ ففيما أخرج أحمد وغيره بإسناد حسن عن العرباض بن سارية، قال: وعظَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - موعظةً ذرفت منها العيون، ووَجِلت منها القلوب، قلنا: يا رسول الله، إن هذه لموعظة مودِّع، فماذا تعهد إلينا؟ قال: ((قد تركتُكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يَزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومَن يَعِش منكم، فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بما عرفتم مِن سنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين، وعليكم بالطاعة، وإنْ عبدًا حبشيًّا، عَضُّوا عليها بالنواجذ؛ فإنما المؤمِن كالجمَل الأَنِف حيثما انقِيد انقاد)).


لذلك حينما سمع الحسن البصري تذكرةً ولم يتأثر بها، قال للمذكِّر: إن بقلبك لعيبًا، أو بقلبي.


وأُدخلت السين الدالة على المستقبل على الآية الكريمة؛ لتدلَّ على أن الذين لديهم استعداد لأن يخشوا ربهم ويَخافوا مِن إنذارته بالعذاب المعجَّل أو المؤجل يحتاجون متابعة تربوية بالتذكير، وعلاجًا يستمر إعطاؤه مدة مِن الزمن؛ حتى يتحقَّق نفع التذكير.

فوائد:
1 - مَن أراد أن يتأثَّر بالموعظة، فعليه أن يطهِّر قلبه مِن الأدران؛ فكما قال عثمان: لو طَهُرت قلوبنا، لما شبعْنا مِن كلام ربنا، ولا شكَّ أن القرآن يَحوي أكمل المواعظ وأنفعها.

2 - على كل مسؤول أن يتعاهد رعيَّته دومًا وأبدًا بالنصح والإرشاد، مُلتمسًا لذلك أحكم الطرق؛ فإن الله لا يملُّ حتى تملُّوا.

3 - أن يكون التذكير حسب حال المدعو؛ فالكافر يذكَّر بالإيمان أولاً، وتارك الصلاة يذكَّر بالصلاة أولاً وإن كان مُقترفًا لغير ذلك مِن الذنوب والآثام، فلا يُطلب مِن الغافل ابتداءً أن يُقيم الليل ويحافظ على صيام النوافل، ولكن يؤمر بالأهمِّ فالمُهمِّ، فثمرة العبادة المقبولة أن يُعينه الله على ترك المنهيات والإتيان بشتَّى القرُبات، وذلك لأن بداية الطريق تَكلُّف وآخِره تآلف، فلا يُحمَل الناس على الدِّين جملةً فيَتركوه جملة.


ثم انتقلَت الآيات للحديث عن الفريق الثاني وحاله تجاه الموعظة والتذكير، فقال سبحانه: ﴿ وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى ﴾ [الأعلى: 11].



والتجنُّب هو طلب البُعدِ؛ أي: كأنه يتكلف البُعدَ عن الذِّكرى؛ لغاية شقوته، والأشقى هو الكافر الذي رفضَ دعوة الله ورسوله وأصرَّ على ذلك.


"وتعريف الأشقى تعريف الجِنس، فيشمل جميع المشركين، ومِن المفسِّرين مَن حمَله على العهد فقال: أريد به الوليد بن المغيرة، أو عتبة بن ربيعة".


وسرُّ التعبير بالمُضارعة في لفظ التجنب - كما يشير الشيخ ابن حبنكة الميداني -: "أن هذا الأشقى الذي هو الأكثر شقاوة بسبب كفرِه العِنادي، هو الذي يتجنَّب الاستجابة لتذكير المذكِّرين؛ لأنه ليس مستعدًّا نفسيًّا لأن يخشى - ولو مستقبلاً - مهما قُدِّمت له الإقناعات والمذكِّرات".


وهذا الشقاء يظل ملازمًا له في الدنيا والآخِرة؛ يقول صاحب الظلال: "الأشقى إطلاقًا وإجمالاً، الأشقى الذي تتمثَّل فيه غاية الشقوة ومنتهاها، الأشقى في الدنيا بروحه الخاوية الميتة الكثيفة الصفيقة، التي لا تحسُّ حقائق الوجود، ولا تسمع شهادتها الصادقة، ولا تتأثَّر بموجباتها العميقة، والذي يعيش قلقًا مُتكالبًا على ما في الأرض كادحًا لهذا الشأن الصغير، والأشقى في الآخِرة بعذابها الذي لا يعرف له مدى".

ثم وصف الله هذا الأشقى بأنه ﴿ الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى ﴾ [الأعلى: 12، 13]، وسبب هذا الوصف مع أنه معلوم للمستمع "ووصف شقي بالذي يصلى النار الكبرى؛ لأن إطلاق شقي في هذه الآية في صدرِ مدة البعثة المحمدية، فكان فيه مِن الإبهام ما يحتاج إلى البيان، فأتبع بوصفٍ يُبينه في الجملة ما نزل مِن القرآن من قبل هذه الآية".



"والنار الكبرى هي نار جهنم، الكبرى بشدتها، والكبرى بمدتها، والكبرى بضخامتها؛ حيث يمتد بقاؤه فيها ويطول، فلا هو يَموت فيجد طعم الراحة، ولا هو يحيا في أمن وراحة؛ إنما هو العذاب الخالد، الذي يتطلع صاحبه إلى الموت كما يتطلع إلى الأمنية الكبرى".


وهذا ما يستحقه الأشقى جزاء جحوده الأبدي المستمر المعبَّر عنه بالمضارعة، أن يكافأ بالخلود الأبدي في النار، يعاقب بشتى ألوان العذاب كما تفنَّن في الدنيا إعراضًا وصدًّا عن سبيل الله.


والعطف بثمَّ في الآية الثانية التي تُفيد التراخي، "و(ثم) للتراخي في مراتب الشدَّة؛ لأن التردد بين الموت والحياة أفظع مِن صلي النار الكبرى".

"وجاءت عبارة "ولا يحيى" تنزيلاً لحياة العذاب منزلة حالة وسطى بين الموت المريح والحياة السعيدة، وهذه الحالة الوسطى هي حالة تعاسة وشقاء دائمَين، وهذه الحالة حَريَّة بألا تُسمى حياة؛ لأن مِن شأن الحياة التي يَحرص عليها الأحياء أن يكون فيها شيء مما يُحبون ويرغبون فيه، أما أن تكون شقاءً دائمًا، فهي ليست بحياة وليست موتًا، بل الموت خير منها، ويتمناه أهل هذا العذاب فلا يَستطيعون الحصول عليه".

فوائد:
1 - إن الشقاء والضِّيق والضنك يلازم الإنسانَ بسبب بُعدِه وتنكُّبه الطريق المستقيم، وكلما زاد عن الله بعدُه، زاد شقاؤه دنيا وأخرى، ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ﴾ [طه: 124 - 127].

2 - واعلم أن عدم الموت في النار - على ما صرَّح به غير واحد - مخصوص بالكفَرة، وأما عُصاة المؤمنين الذين يدخلونها فيموتون فيها، واستدلَّ لذلك بما أخرجه مسلم عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أما أهل النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يَموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس أصابتْهم النار بذنوبهم - أو قال: بخطاياهم - فأماتهم الله تعالى إماتة، حتى إذا كانوا فحمًا أَذِن في الشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر، فبُثُّوا على أنهار الجنَّة، ثم قيل: يا أهل الجنة، أفيضوا عليهم مِن الماء، فينبتون نبات الحبة في حَميل السيل)).

قال الحافظ ابن رجب: إنه يدل على أن هؤلاء يموتون حقيقة، وتُفارق أرواحهم أجسادهم، وأيد بتأكيد الفعل بالمصدر في قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((فأماتهم الله تعالى إماتة))، وأظهرُ منه ما أخرجه البزار عن أبي هريرة مرفوعًا: ((إن أدنى أهل الجنة حظًّا أو نصيبًا قومٌ يُخرجهم الله تعالى مِن النار فيرتاح لهم الربُّ - تبارك وتعالى - وذلك أنهم كانوا لا يُشركون بالله تعالى شيئًا، فيُنبَذون بالعراء فيَنبُتون كما ينبت البقل، حتى إذا دخلت الأرواح أجسادهم فيقولون: ربنا كما أخرجتنا مِن النار وأرجعتَ الأرواح إلى أجسادنا، فاصرف وجوهنا عن النار، فيَصرِف وجوههم عن النار))، وهذه الإماتة - على ما اختاره غير واحد - بعد أن يذوقوا ما يستحقونه مِن عذابها بحسب ذنوبهم، كما يُشعر به حديث مسلم، وإبقاؤهم فيها ميتين إلى أن يؤذن بالشفاعة لإيجابه تأخير دخولهم الجنة تلك المدة، كان تتمة لعقوبتهم بنوع آخر، فتكون ذنوبهم قد اقتضَت أن يُعذَّبوا بالنار مدة ثم يُحبسوا فيها من غير عذاب مدة" </ul>

الشاعر مناضل الناصر
08-02-2020, 12:36 AM
يعطيك العافيه
طرح رائع
أنتظر جديدك بكل الشوق والود ,,,
تقبلوا مروري المتواضع

اسير الاحزان
28-03-2020, 02:18 PM
كل الشكر لكـِ ولهذا المرور الجميل

الله يعطيكـِ العافيه يارب

فيصل الجهني
04-04-2020, 01:37 AM
جزاك الله الخير
والله يعطيك العافيه

همس الروح
22-04-2020, 06:15 PM
سلمت اناملك على ماجادت به
من روعة بالطرح
دام لنا ابداعك بأرقى حالاته
بانتظار عطائك القادم
مودتي وامتناني

عواد الهران
21-06-2023, 05:45 AM
مشاركه جيده ومفيده

وتفاعل طيب ...وتواجد جميل

بارك الله فيك