قلت : وفي ذلك قال الله تعالى إخبارا عن جهلهم وقلة عقلهم : بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون [ الأنبياء : 5 ] . فحاروا ماذا يقولون فيه ، فكل شيء يقولونه باطل ; لأن من خرج عن الحق مهما قاله أخطأ ، قال الله تعالى : انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا [ الفرقان : 9 ]
وقال الإمام عبد بن حميد في " مسنده " : حدثني أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا علي بن مسهر عن الأجلح ، هو ابن عبد الله الكندي عن الذيال بن حرملة الأسدي عن جابر بن عبد الله قال : اجتمع قريش يوما ، فقالوا : انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر ، فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا ، وشتت أمرنا ، وعاب ديننا ، فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه ، فقالوا : ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة . فقالوا : أنت يا أبا الوليد . فأتاه عتبة فقال : يا محمد أنت خير أم عبد الله ؟ فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فقال : أنت خير أم عبد المطلب ؟ فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فقال : إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك ، فقد عبدوا الآلهة التي عبت ، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى [ ص: 156 ] نسمع قولك ، إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومه منك ; فرقت جماعتنا ، وشتت أمرنا ، وعبت ديننا ، وفضحتنا في العرب ، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا ، وأن في قريش كاهنا ، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى ، أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى ، أيها الرجل إن كان إنما بك الحاجة ، جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا ، وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت ، فلنزوجك عشرا . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " فرغت ؟ " . قال : نعم . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون إلى أن بلغ فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فقال عتبة : حسبك حسبك ، ما عندك غير هذا ؟ قال : " لا " . فرجع إلى قريش ، فقالوا : ما وراءك ؟ قال ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمونه إلا كلمته . قالوا : فهل أجابك ؟ فقال : نعم . ثم قال : لا والذي نصبها بنية ، ما فهمت شيئا مما قال ، غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود . قالوا : ويلك يكلمك الرجل بالعربية لا تدري ما قال ؟ ! قال : لا والله ، ما فهمت شيئا مما قال ، غير ذكر الصاعقة .
[ ص: 157 ] وقد رواه البيهقي وغيره عن الحاكم عن الأصم عن عباس الدوري عن يحيى بن معين عن محمد بن فضيل عن الأجلح به . وفيه كلام ، وزاد : وإن كنت إنما بك الرياسة عقدنا ألويتنا لك ، فكنت رأسنا ما بقيت . وعنده : أنه لما قال له : فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود أمسك عتبة على فيه ، وناشده الرحم أن يكف عنه ، ولم يخرج إلى أهله ، واحتبس عنهم . فقال أبو جهل : يا معشر قريش ، والله ما نرى عتبة إلا صبأ إلى محمد ، وأعجبه طعامه ، وما ذاك إلا من حاجة أصابته ، انطلقوا بنا إليه . فأتوه ، فقال أبو جهل : والله يا عتبة ما جئنا إلا أنك صبوت إلى محمد ، وأعجبك أمره ، فإن كان بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد . فغضب وأقسم بالله لا يكلم محمدا أبدا ، وقال : لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ، ولكني أتيته وقص عليهم القصة فأجابني بشيء والله ما هو بسحر ولا بشعر ولا كهانة ، قرأ بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم حتى بلغ فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود [ فصلت : 113 ] فأمسكت بفيه ، وناشدته الرحم أن يكف ، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب ، فخفت أن ينزل عليكم العذاب .
[ ص: 158 ] ثم قال البيهقي عن الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار عن يونس عن محمد بن إسحاق حدثني يزيد بن أبي زياد مولى بني هاشم عن محمد بن كعب قال : حدثت أن عتبة بن ربيعة وكان سيدا حليما قال ذات يوم وهو جالس في نادي قريش ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس وحده في المسجد : يا معشر قريش ، ألا أقوم إلى هذا فأكلمه فأعرض عليه أمورا ، لعله يقبل بعضها ويكف عنا ؟ قالوا : بلى يا أبا الوليد . فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فذكر الحديث فيما قال له عتبة وفيما عرض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المال ، والملك ، وغير ذلك . وقال زياد عن ابن إسحاق : فقال عتبة : يا معشر قريش ، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه ، وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها ، فنعطيه أيها شاء ويكف عنا وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزيدون ويكثرون فقالوا : بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه . فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا ابن أخي ، إنك منا حيث قد علمت من السطة في العشيرة ، والمكان في النسب ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم ، فرقت به جماعتهم ، وسفهت [ ص: 159 ] به أحلامهم ، وعبت به آلهتهم ودينهم ، وكفرت به من مضى من آبائهم ، فاسمع مني حتى أعرض عليك أمورا تنظر فيها ، لعلك تقبل منها بعضها . قال : فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يا أبا الوليد أسمع " . قال : يا ابن أخي ، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا ، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ، وإن كنت تريد به شرفا ، سودناك علينا ، حتى لا نقطع أمرا دونك ، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه ، لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب ، وبذلنا فيه أموالنا ، حتى نبرئك منه ، فإنه ربما غلب التابع على الرجل ، حتى يداوى منه . أو كما قال له . حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستمع منه ، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أفرغت يا أبا الوليد ؟ " . قال : نعم . قال : " فاسمع مني " . قال : أفعل . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون فمضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرؤها ، فلما سمع بها عتبة أنصت لها ، وألقى بيديه خلفه أو خلف ظهره معتمدا عليهما ; ليسمع منه ، حتى انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السجدة فسجدها ، ثم قال : " سمعت يا أبا الوليد ؟ " . قال : سمعت . قال : " فأنت وذاك " . ثم قام عتبة إلى أصحابه ، فقال بعضهم لبعض : نحلف بالله ، لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به . فلما جلسوا إليه ، قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ؟ قال : ورائي أني والله قد سمعت قولا [ ص: 160 ] ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالشعر ، ولا الكهانة ، يا معشر قريش ، أطيعوني واجعلوها بي ، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه ، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ ، فإن تصبه العرب ، فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب ، فملكه ملككم ، وعزه عزكم ، وكنتم أسعد الناس به ، قالوا : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه . قال : هذا رأيي لكم ، فاصنعوا ما بدا لكم . ثم ذكر يونس عن ابن إسحاق شعرا قاله أبو طالب يمدح فيه عتبة .
وقال البيهقي : أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الأصبهاني أخبرنا أبو قتيبة سلمة بن الفضل الآدمي بمكة ، حدثنا أبو أيوب أحمد بن بشر الطيالسي حدثنا داود بن عمرو الضبي حدثنا المثنى بن زرعة عن محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر قال : لما قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عتبة بن ربيعة حم تنزيل من الرحمن الرحيم أتى أصحابه ، فقال لهم : يا قوم ، أطيعوني في هذا الأمر اليوم ، واعصوني فيما بعده ، فوالله لقد سمعت من هذا الرجل كلاما ما سمعت أذناي كلاما مثله ، وما دريت ما أرد عليه . وهذا حديث غريب جدا من هذا الوجه .
ثم روى البيهقي عن الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار [ ص: 161 ] عن يونس عن ابن إسحاق حدثني الزهري قال : حدثت أن أبا جهل وأبا سفيان والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليسمعوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي بالليل في بيته ، فأخذ كل رجل منهم مجلسا ليستمع منه ، وكل لا يعلم بمكان صاحبه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا أصبحوا وطلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فتلاوموا ، وقال بعضهم لبعض : لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا . ثم انصرفوا ، حتى إذا كانت الليلة الثانية ، عاد كل رجل منهم إلى مجلسه ، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة . ثم انصرفوا ، فلما كانت الليلة الثالثة ، أخذ كل رجل منهم مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فقالوا : لا نبرح حتى نتعاهد أن لا نعود فتعاهدوا على ذلك ، ثم تفرقوا فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته ، فقال : أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد . فقال : يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها . فقال الأخنس : وأنا والذي حلفت به . ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته ، فقال : يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ فقال : ماذا سمعت ! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف ; أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تجاثينا على الركب ، وكنا كفرسي رهان ، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء ، فمتى ندرك هذه ؟ والله لا نسمع به أبدا ، ولا نصدقه . فقام عنه الأخنس بن شريق
[ ص: 162 ] ثم قال البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا أبو العباس حدثنا أحمد حدثنا يونس عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن المغيرة بن شعبة قال : إن أول يوم عرفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني كنت أمشي أنا وأبو جهل بن هشام في بعض أزقة مكة ، إذ لقينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي جهل : " يا أبا الحكم هلم إلى الله وإلى رسوله ، أدعوك إلى الله " . فقال أبو جهل : يا محمد ، هل أنت منته عن سب آلهتنا ؟ هل تريد إلا أن نشهد أنك قد بلغت ؟ فنحن نشهد أن قد بلغت ، فوالله لو أني أعلم أن ما تقول حق لاتبعتك . فانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقبل علي فقال : والله إني لأعلم أن ما يقول حق ، ولكن يمنعني شيء ; إن بني قصي ، قالوا : فينا الحجابة . فقلنا : نعم . ثم قالوا : فينا السقاية . فقلنا : نعم . ثم قالوا : فينا الندوة . فقلنا : نعم . ثم قالوا فينا اللواء . فقلنا : نعم . ثم أطعموا وأطعمنا ، حتى إذا تحاكت الركب ، قالوا : منا نبي . والله لا أفعل .
وقال البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر قالا : حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم حدثنا محمد بن خالد حدثنا أحمد بن خالد [ ص: 163 ] حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق قال : مر النبي - صلى الله عليه وسلم - على أبي جهل وأبي سفيان وهما جالسان ، فقال أبو جهل : هذا نبيكم يا بني عبد شمس . قال أبو سفيان : وتعجب أن يكون منا نبي ! فالنبي يكون فيمن أقل منا وأذل . فقال أبو جهل : عجب أن يخرج غلام من بين شيوخ نبيا . ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمع فأتاهما ، فقال : " أما أنت يا أبا سفيان فما لله ورسوله غضبت ، ولكنك حميت للأصل ، وأما أنت يا أبا الحكم فوالله لتضحكن قليلا ، ولتبكين كثيرا " . فقال : بئسما تعدني يا ابن أخي من نبوتك . هذا مرسل من هذا الوجه ، وفيه غرابة .
وقول أبي جهل لعنه الله ، كما قال الله تعالى مخبرا عنه وعن أضرابه : وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا [ الفرقان : 41 - 42 ]
وقال الإمام أحمد : حدثنا هشيم حدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوار بمكة : ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها [ الإسراء : 110 ] . قال : كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن ، فلما سمع ذلك المشركون سبوا القرآن ، وسبوا من أنزله ، ومن جاء به . قال : فقال الله تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا تجهر بصلاتك أي بقراءتك ، فيسمع المشركون ، فيسبوا القرآن ، ولا تخافت بها عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن ، حتى يأخذوه عنك وابتغ بين ذلك سبيلا [ ص: 164 ] وهكذا رواه صاحبا " الصحيح " من حديث أبي بشر جعفر بن أبي وحشية به .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جهر بالقرآن ، وهو يصلي ، تفرقوا عنه ، وأبوا أن يستمعوا منه ، وكان الرجل إذا أراد أن يسمع من رسول الله بعض ما يتلو وهو يصلي استرق السمع دونهم ; فرقا منهم ، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع ، ذهب خشية أذاهم ، فلم يستمع ، فإن خفض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يسمع الذين يستمعون من قراءته شيئا ، فأنزل الله تعالى ولا تجهر بصلاتك فيتفرقوا عنك ولا تخافت بها فلا يسمع من أراد أن يسمعها ممن يسترق ذلك ، لعله يرعوي إلى بعض ما يسمع ، فينتفع به وابتغ بين ذلك سبيلا